في الحقيقة، متابعة مباراة منتخب الشباب تمنحك إحساسًا أقرب إلى عشق التدريب والتطوير من مجرد متابعة النتيجة. اللافت للنظر أن جماهيرنا – عبر شاشات الهواتف والتواصل الاجتماعي – شاركت الحلم بشغف كبير. من ناحية أخرى، كانت البطولة تحديًا فنيًا له رموزه ومفاجآته.
الانطلاقة والتأهل
قبل أن نتحدث عن الأداء في المونديال، يجدر بنا أن نعود إلى مرحلة التأهل. المنتخب المغربي صعد للدور العالمي بعد منافسة قوية في التصفيات القارية، حيث واجه فرقًا عربية وأفريقية عتيقة.
تأهّل المغرب لم يكن صدفة، بل نتيجة عمل طويل: تطوير الأكاديميات، الاهتمام بالفئات الصغرى، وتوظيف الخبرات الفنية. من وجهة نظري، هذه الخلفية التنظيمية هي ما جعل التأهل يبدو طبيعيًا وليس مفاجئًا.
لأنني تابعت إحدى مباريات التأهل عن قرب، لاحظت أن المدرب أجرى تغييرات ذكية في الشوط الثاني، مما قلب الطاولة لصالح المغرب. بصراحة، هذه القدرة على تعديل الخطة في الملعب تمنح المنتخب مرونة كبيرة.
الأداء في المراحل الأولى
حين انطلقت المباريات في البطولة، وجد المغرب نفسه أمام خصوم ليسوا سهلين: بعض المنتخبات التي تملك تاريخًا في الفئات العمرية. لكن اللافت للنظر أن أبناء المغرب دخلوا الجميع بخطى واثقة.
في مباريات المجموعة، أظهروا تماسكًا دفاعيًا جيدًا، وقدرة على بناء الهجمات من العمق. ومع ذلك، أحيانًا افتقرت الهجمات الكبرى إلى اللمسة الأخيرة. من وجهة نظري، هذا طبيعي في مثل هذه البطولات، لأن الخبرة تكبر مع كل شوط يُلعب.
واحدة من المباريات التي أثرت فيَّ شخصيًا كانت مواجهة فريق من أمريكا الجنوبية، حين قلب المغرب تأخره إلى تعادل في الشوط الثاني. شاهدت الإعادة عدة مرات ولاحظت أن الإصرار والتنوع في التمرير كانا مفتاح العودة.
اللحظات الفارقة والتحديات
كل بطولة لديها لحظاتها التي تُكتب في الذاكرة. في هذا المونديال، شهدنا بعض اللحظات التي كانت قمة التوتر والفرح معًا. مثل هدف الفوز في الدقيقة الأخيرة، أو تصدٍّ مدهش من حارس مرمى المغرب أنقذ الحلم.
لكن، كان هناك تحديات لا يُستهان بها: الضغط الإعلامي، ضعف اللياقة في الأوقات الحاسمة، الأخطاء الفردية في البناء الهجومي. ومع ذلك، في رأيي، التحدي الحقيقي كان الاستمرارية — كيف تحافظ على المستوى العالي من مباراة إلى أخرى؟
لو تحدثت مع أي لاعب في المنتخب، فستجد أن التعامل النفسي مع المتغيرات (الإصابات، التعب، الانتقالات) كان من أكبر الاختبارات. بصراحة، الكرة ليست فقط تقنية، بل لعبة نفس وعقل قبل كل شيء.
النجوم الصاعدة والورشة التكتيكية
من أجمل ما في هذه البطولة ظهور لاعبين شباب مغاربة يملكون شخصية داخل الملعب تفوق أعمارهم. هناك أسماء باتت تتردد على ألسنة الجماهير في المقاهي والمجالس الرياضية.
المدرب اعتمد على أسلوب متوازن يجمع بين الواقعية الدفاعية والبناء الهادئ للهجمة. المدهش أن بعض اللاعبين تخرجوا من أكاديميات محلية صغيرة في مدن مثل فاس ومراكش، ما يثبت أن البنية القاعدية المغربية بدأت تؤتي ثمارها.
في رأيي، المنتخب ليس مجرد مجموعة مواهب، بل مشروع وطني صغير في ثوب شبابي. هذه المجموعة هي صورة مصغّرة من مستقبل الكرة المغربية، التي أصبحت تُدار بعقلية أكثر علمية.
مقارنة مع تجارب عربية سابقة
حين أتابع أداء المغرب، لا أستطيع إلا أن أتذكّر منتخبات عربية أخرى خاضت تجارب مماثلة، مثل السعودية في مونديال الشباب 2017 أو تونس في كأس إفريقيا. الفرق أن المغرب يبدو اليوم أكثر نضجًا على مستوى الذهنية والهوية الفنية.
اللافت أن اللاعبين المغاربة الشباب يتعاملون مع الضغط بثقة غير معتادة، وكأنهم تعلّموا من كبار المنتخب الأول الذين صنعوا المجد في مونديال قطر. من وجهة نظري، هذا الامتداد بين الأجيال هو سر الاستقرار الكروي المغربي.
بصراحة، ما يثير الإعجاب هو أن اللاعبين لا يخافون من الخطأ. تراهم يحاولون، يجازفون، يراوغون، ويضغطون من دون خوف. هذه الروح هي ما تخلق الفرق بين منتخب يعيش البطولة وآخر يشارك فيها فقط.
ما الذي يميز منتخب المغرب؟
هناك ثلاث كلمات تختصر المشهد: الانضباط، الشغف، والتنظيم.
من ناحية، الانضباط واضح في الالتزام التكتيكي والتمركز الدفاعي. من ناحية أخرى، الشغف يظهر في طريقة احتفالهم بكل تمريرة ناجحة. أما التنظيم، فهو ثمرة عمل إداري وفني متكامل.
أنا أؤمن أن هذا المنتخب أعاد تعريف معنى “الفريق”. كل لاعب يعرف دوره بدقة، حتى أولئك الذين يجلسون على الدكة يبدون في قمة الروح الجماعية. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تصنع الكبار.
المدرب نفسه كان صريحًا في مؤتمره الصحفي حين قال: “لسنا هنا لنحلم فقط، بل لنتعلم كيف نصنع الحلم بأقدامنا.” في رأيي، هذه الجملة تختصر فلسفة الجيل الجديد من الكرة المغربية.
التغطية الجماهيرية والإعلامية
المدهش في هذه الرحلة أن الجماهير لم تتعامل مع منتخب تحت 20 سنة على أنه “درجة ثانية” من المنتخب الوطني، بل منحته الدعم الكامل. رأيت بأم عيني المقاهي في الدار البيضاء ومراكش مليئة بالمشجعين وهم يرتدون القمصان الحمراء نفسها.
وسائل الإعلام أيضًا لعبت دورًا إيجابيًا، إذ ركّزت على التغطية التحليلية بدل النقد السلبي. الصحف المحلية بدأت تتحدث عن هؤلاء اللاعبين كجيل ذهبي جديد، وليس مجرد تجربة عابرة.
في رأيي، هذا التفاعل الجماهيري يعكس نضج الوعي الرياضي في المغرب. لم نعد ننتظر الانتصار فقط، بل نحتفل بالتطور نفسه.
البنية التحتية والدعم المحلي
لا يمكن أن نفصل النتائج عن العمل القاعدي. المغرب استثمر كثيرًا في مراكز التكوين والبنية الرياضية، خصوصًا في مجمع محمد السادس لكرة القدم، الذي أصبح أحد أفضل المراكز في إفريقيا.
اللافت أن الفئات العمرية الصغيرة تتلقى اليوم تدريبًا شبه أوروبي من حيث المنهجية والانضباط. وهذا ما يجعل الانتقال إلى المنتخبات الكبرى أكثر سلاسة.
في رأيي، هذا الاستثمار الهادئ هو ما يصنع الفارق الحقيقي. الألقاب قد تأتي وتذهب، لكن النظام وحده هو الذي يضمن الاستمرار.
المستقبل والتوقعات
مع هذا النسق التصاعدي، من الطبيعي أن ترتفع التوقعات. الجماهير بدأت تتحدث عن الوصول إلى المربع الذهبي، وربما الحلم باللقب. لكن الواقعية تقتضي أن نتعامل مع كل مباراة كمرحلة بناء.
من وجهة نظري، الأهم ليس فقط ما سيحققه المنتخب الآن، بل ما سيفعله بعد البطولة. هل سيتم الحفاظ على هذا الجيل؟ هل ستُمنح له فرص حقيقية في الأندية والمنتخب الأول؟ هذه الأسئلة هي ما تحدد إن كانت التجربة مجرد فورة أو مشروع مستدام.
بصراحة، وأنا أكتب هذه السطور، لا أشعر أنني أكتب عن منتخب شباب، بل عن فكرة اسمها الأمل المغربي. هؤلاء اللاعبون جعلونا نؤمن أن الحلم يبدأ من التدريب، من الإصرار، من التفاصيل الصغيرة.
برأيي، هذا الجيل ليس مجرد صفحة جديدة في كتاب الكرة المغربية، بل هو القلم نفسه الذي سيكتب فصولها القادمة.
وأنا شخصيًا، حين أشاهدهم يلعبون، أشعر أن المستقبل ليس بعيدًا كما كنا نتصور.
ربما سيخسرون، وربما سيتعثرون، لكنهم بالتأكيد غيّروا طريقة تفكيرنا في معنى “منتخب المستقبل”.
ومن يدري؟ ربما في النسخة القادمة سنراهم رجالًا في المنتخب الأول، يواصلون كتابة الحلم نفسه بلغة النضج والإنجاز.