كيف تجعل فكرتك أو منتجك ينتشر؟ وما علاقة الذكاء الاصطناعي بذلك؟

هل تساءلت يومًا لماذا تنتشر بعض الأفكار بسرعة كالنار في الهشيم، بينما تظل أفكار أخرى – رغم جودتها أو عمقها – بالكاد تُلاحظ؟ لا يتعلق الأمر بالحظ أو الصدفة كما قد نعتقد، بل هناك آليات خفية، أشبه بقوانين اجتماعية، تحكم طريقة تداول الناس للأفكار والمحتوى. هذه الآليات تُحوّل الفكرة من مجرد معلومة إلى ما يشبه العدوى الاجتماعية – تنتقل من شخص لآخر، من مجموعة إلى أخرى، حتى تصبح موضوع الساعة.
الكاتب Jonah Berger في كتابه الشهير "Contagious: How to Build Word of Mouth in the Digital Age" يفكك هذه الظاهرة ويقدّم تفسيرًا علميًا وعميقًا لها، بعيدًا عن النظريات السطحية. برأيه، الانتشار ليس عشوائيًا، بل نتيجة لعوامل نفسية واجتماعية مترابطة تؤثر على سلوك الأفراد في مشاركة وتكرار ما يثير انتباههم.
في عصر الرقمنة، أصبحت قابلية الانتشار لا تُقاس فقط في الشارع أو في الجلسات العائلية، بل على شاشات الهواتف، داخل مجموعات واتساب، وعلى منصات مثل إنستغرام، تيك توك، ويوتيوب. وهنا تأتي أهمية فهم "كيف" و"لماذا" ينتقل المحتوى، خصوصًا مع المنافسة الشرسة على انتباه المستخدم.
ما يجعل هذا الكتاب أكثر إثارة اليوم هو قابليته للتطبيق على التقنيات الناشئة، وأهمها الذكاء الاصطناعي (AI). فالـ AI، رغم تطوره المذهل، يظل غامضًا لكثير من الناس. لكن عند دمجه بشكل ذكي مع قواعد الانتشار الاجتماعي، يمكن لأي منتج أو فكرة مبنية على الذكاء الاصطناعي أن تتحول إلى قصة تُروى، أداة تُستخدم، أو تجربة يُنصح بها. في الواقع، ما يميز الأفكار التقنية اليوم ليس فقط "ما تقوم به"، بل "كيف نتحدث عنها" وكيف يتم تبنيها شعبيًا.
الفكرة التي يريد Berger إيصالها ليست أن نبحث عن طريقة للتلاعب بالجمهور، بل أن نفهم ما يجعل الناس يهتمون، يتفاعلون، ويشاركون. فحتى أفضل أفكار الذكاء الاصطناعي لن تجد طريقها إلى المستخدم ما لم يتم التعبير عنها بطريقة تُلائم العقل البشري، وتلامس عاداته، دوافعه، ومشاعره. الانتشار، في جوهره، هو تفاعل بشري – والذكاء الاصطناعي، رغم طابعه التقني، لا يمكنه أن ينجح من دون هذا العنصر البشري.

العملة الاجتماعية – Social Currency

هل تساءلت يومًا لماذا تنتشر بعض الأفكار بسرعة كأنها موجة لا يمكن إيقافها، بينما تظل أفكار أخرى – قد تكون أعمق وأذكى – حبيسة الزوايا الخلفية من الإنترنت أو الحياة اليومية؟ السبب لا يعود بالضرورة إلى جودة الفكرة أو عبقريتها، بل إلى وجود قوانين غير مكتوبة تحكم سلوكنا البشري في نقل المعلومات. فنحن لا نشارك كل ما نعرفه، بل نميل إلى مشاركة ما يُثير فينا شعورًا ما: الفضول، الإعجاب، الدهشة، أو حتى الرغبة في التميز. وهذا ما يجعل بعض الأشياء "تُعدي"، بالمعنى المجازي، وتنتشر كما ينتشر الضحك في غرفة مزدحمة أو العدوى في مكان مغلق.
في كتابه "Contagious", يقدم الباحث Jonah Berger نظرة ثاقبة حول هذا السلوك، ويُظهر كيف أن الانتشار يمكن دراسته وتحقيقه بشكل منهجي. هو لا يتحدث عن تسويق تقليدي، بل عن فهم عميق لكيفية عمل "الكلام الشفهي" في العصر الرقمي. عندما نعرف السبب الحقيقي وراء مشاركة الناس لشيء ما، يمكننا أن نُصمم أفكارنا ومنتجاتنا لتكون أكثر جاذبية وانتشارًا. فالانتشار ليس مجرد أمنية، بل نتيجة متوقعة لسلوك اجتماعي يمكن تصميمه بذكاء.

المحفزات – Triggers

ما يجعل هذا الطرح أكثر أهمية اليوم هو أننا نعيش في زمن أصبحت فيه التقنيات الجديدة، وخصوصًا الذكاء الاصطناعي، جزءًا من محادثاتنا اليومية. ومع ذلك، كثير من أدوات وتقنيات الذكاء الاصطناعي تبقى غير مفهومة لعامة الناس، أو غير مثيرة بما يكفي ليتم تداولها على نطاق واسع. وهنا تحديدًا تبرز قوة مبادئ Jonah Berger: تخيل لو استُخدمت هذه المبادئ في تقديم أدوات الذكاء الاصطناعي بشكل يجعلها قريبة من الناس، لا باعتبارها خوارزميات معقدة، بل كحلول يومية تغير طريقة العمل، التعليم، أو حتى الحياة الشخصية.
على سبيل المثال، أداة بسيطة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتلخيص النصوص يمكن أن تتحول إلى حديث الناس إذا قُدمت كـ"اختصار ذكي يوفر وقتك في الدراسة أو العمل". الفكرة التقنية نفسها لم تتغير، لكن طريقة تقديمها تغيّرت جذريًا. نحن لا ننجذب للتكنولوجيا لأنها ذكية فقط، بل لأنها تمس حاجاتنا وتتكلم بلغتنا وتظهر في الوقت والمكان المناسبين.
إذن، لا يكفي أن نبتكر منتجًا متقدمًا، بل يجب أن نصوغه بشكل يتوافق مع القيم والسلوكيات الإنسانية. الذكاء الاصطناعي قد يكون محرك الفكرة، لكن البشر هم من يدفعونها إلى الانتشار.

العاطفة – Emotion

العاطفة هي المحرك الخفي وراء كثير من قراراتنا، بما فيها قرار بسيط كأن نضغط على "مشاركة" أو "إرسال إلى صديق". فحين تلامسنا فكرة ما في منطقة الشعور، تتجاوز حواجز التفكير والتحليل، وتصبح أقرب إلى رد فعل تلقائي. في عالم يعج بالمحتوى، غالبًا ما يتجاهل الناس ما لا يحرك شيئًا في دواخلهم. ولهذا، فإن المحتوى الذي يُثير مشاعر قوية – سواء كانت إيجابية مثل الإلهام أو المفاجأة، أو حتى سلبية مثل الغضب أو التعاطف – يمتلك فرصًا أكبر للانتشار.
ليس المقصود هنا استدرار الدموع أو إثارة مشاعر زائفة، بل تقديم الفكرة أو المنتج في سياق إنساني حقيقي يُظهر أثره على حياة شخص ما أو مجتمعه. على سبيل المثال، عندما تُروى تجربة شخصية لشخص استفاد من أداة ذكاء اصطناعي ساعدته في التغلب على تحدٍ حقيقي، يشعر المتلقي أنه متصل بالقصة – ليس كمتفرج، بل كطرف محتمل يعيش التجربة يومًا ما.
المشاعر تخلق روابط، وعندما يشعر الإنسان بأنه مرتبط عاطفيًا بما يراه أو يسمعه، تتحول رغبته في التفاعل إلى ما هو أكبر: مشاركة، دعم، أو حتى تبني الفكرة والدفاع عنها أمام الآخرين.

العلنية – Public

من الطبيعي أن يتأثر الإنسان بما يراه أمامه. نحن كائنات اجتماعية، نراقب سلوك الآخرين ونتعلم من خلال الملاحظة، وغالبًا ما نحاكي ما يبدو شائعًا أو معتمدًا من قبل من نثق بهم أو نرغب في تقليدهم. في هذا السياق، يصبح للظهور العلني للمنتجات أو الأفكار دور جوهري في تحديد ما إذا كانت ستُعتمد على نطاق واسع أم لا. الفكرة التي تبقى حبيسة الخفاء، حتى وإن كانت مذهلة، قلّما تُنتشر.
حين نرى أداة تُستخدم أمامنا – سواء في مقطع فيديو، ورشة عمل، أو حتى أثناء بث مباشر – نشعر بأنها طبيعية، مألوفة، وربما ضرورية. هذا ينطبق بشكل كبير على أدوات الذكاء الاصطناعي التي لا يزال كثير من الناس ينظرون إليها بريبة أو عدم فهم. لكن حين تُعرض بشكل واضح في مواقف واقعية، يتلاشى الغموض وتبدأ الرغبة في التجربة.
ومن المهم أن تُصمم المنتجات أو الأفكار بحيث تكون ظاهرة بطبيعتها. كأن تحمل واجهتها علامة مميزة، أو أن تشجّع المستخدم على مشاركتها تلقائيًا. الانتشار لا يحدث في الظل؛ بل في الضوء. وعندما يرى الناس الآخرين يستخدمون شيئًا ما بشكل عفوي ومتكرر، يبدأ السؤال التلقائي في أذهانهم: "هل أنا الوحيد الذي لم يجرب هذا بعد؟"

القيمة العملية – Practical Value

في عصر يمتلئ بالمعلومات والضوضاء الرقمية، يبحث الناس عما يُحدث فارقًا مباشرًا في حياتهم. إن تقديم قيمة عملية واضحة لا يعني فقط إبهار الجمهور، بل تزويدهم بأدوات أو أفكار يمكنهم استخدامها فورًا. المحتوى الذي يُظهر للناس كيف يمكنهم أن يفعلوا شيئًا أفضل، أسرع، أو بأسلوب أسهل – هو المحتوى الذي يتوقفون عنده، يحفظونه، ويشاركونه مع غيرهم.
القيمة العملية لا تعني تقديم نصائح معقدة، بل العكس تمامًا: البساطة والوضوح هما السر. مثلًا، مشاركة طريقة بسيطة لتقليل عبء البريد الإلكتروني اليومي باستخدام مساعد ذكي، أو عرض نموذج جملة يمكن استخدامها مع أداة ذكاء اصطناعي لصياغة رسائل رسمية – هذه تفاصيل صغيرة لكنها تُحدث تأثيرًا فوريًا.
الجمهور لا يبحث فقط عن معلومات، بل عن حلول سريعة وموثوقة. لذا، عندما يرى أن فكرتك أو منتجك تقدم له شيئًا مفيدًا يمكن تطبيقه في واقعه، فإنه يشعر بالامتنان – وهذا الشعور غالبًا ما يُترجم إلى مشاركة.
كما أن تقديم قيمة عملية يعزز الثقة، ويضعك في موضع "المصدر الموثوق" الذي يعرف ما يقدمه. ومع الوقت، تتحول القيمة العملية إلى عادة، ثم إلى ولاء. فلا تكتفِ بإبهار الناس، بل اجعلهم يستفيدون منك فعليًا، وستجدهم يعودون إليك مرارًا، ويُخبرون غيرهم بذلك أيضًا.

القصص – Stories

منذ فجر التاريخ، كانت القصص الوسيلة الأقوى لنقل المعرفة والمشاعر. نحن لا نتفاعل مع البيانات المجردة أو المصطلحات المعقدة بنفس الطريقة التي نتفاعل بها مع حكاية بسيطة عن شخص يشبهنا، يواجه تحديًا، ويجد حلاً غير متوقع. القصة تمنح الفكرة روحًا، وتجعلها قابلة للحفظ والتكرار والتأثير.
عندما تقدم منتجًا أو فكرة عبر قصة، فإنك تمنح جمهورك وسيلة لنقل رسالتك دون الحاجة لشرح تقني. تخيّل الفرق بين أن تقول: "هذه أداة تعتمد على التعلم العميق وتحليل البيانات"، أو أن تقول: "صحفية مستقلة كانت تستغرق ساعات في تحرير المقابلات، أصبحت الآن تنهي عملها في ثلث الوقت باستخدام هذه الأداة". القصة تضع التجربة في سياق إنساني، وتُظهر التأثير الواقعي.
القوة الحقيقية للقصص تكمن في أنها لا تُنسى بسهولة. نسمعها، نرتبط بها، ثم نعيد روايتها لمن نحب. وبالتالي، فإن القصة تتحول إلى وسيلة نقل للفكرة الأصلية، لكنها مدموجة بالعاطفة والمعنى. كل منتج أو فكرة – مهما كانت بسيطة أو معقدة – يمكن أن تُروى من خلال قصة. لا تكتفِ بإخبار الناس بما تقدمه، بل أخبرهم كيف غيّر حياة شخصٍ ما.
كيف تصنع عدوى اجتماعية لفكرتك؟

لنجعلها بسيطة:

اجعل من يشاركك يشعر بالتميز.

اربط فكرتك بعادة يومية.

حفّز مشاعر قوية.

اعرضها أمام الناس.

قدم فائدة واضحة.

وقلها في قصة جميلة.

 هذا،  هو ما يصنع الفرق بين فكرة تُنسى وأخرى تنتشر
في عالم تتطور فيه أدوات الذكاء الاصطناعي بسرعة مذهلة، لن يكفي أن تملك تقنية عبقرية. الأهم أن تعرف كيف تجعل الناس يتحدثون عنها، يشاركونها، يحبونها، ويشعرون أنها تخصهم.
فكرتك القادمة قد تكون رائعة، لكن لن تنتشر وحدها... بل تحتاج أن تكون معدية
اترك لنا المجال الذي تهتم به أكثر  لننشر فيه أكثر  في التعليقات.
الصورة توضيحية ومولدة باستخدام الذكاء الاصطناعي 
تعليقات