مدخل بسيط لفهم الخوارزميات من الحياة اليومية
في البداية، تخيل أنك تعلم طفلًا صغيرًا كيف يميّز بين القطة والكلب. في أول مرة يرى فيها صورة لحيوان، قد يتردد، لا يعرف الفرق. لكنه بعد أن يشاهد عدة صور لحيوانات مختلفة، ويستمع إلى ملاحظات من حوله مثل: "هذه قطة لأنها صغيرة وتحب التسلق"، أو "هذا كلب لأنه ينبح وله ذيل طويل"، يبدأ ببطء في بناء نمط داخلي يساعده على التمييز. في كل مرة يرى فيها صورة جديدة، يضيف تفصيلة جديدة إلى ذاكرته، ويصبح قراره في المرة التالية أسرع وأكثر دقة.
هذا التعلّم التدريجي يشبه تمامًا ما يحدث في الخوارزميات، ولكن داخل عقل آلة وليس عقل إنسان. فالخوارزمية لا تأتي وهي تعرف كل شيء، بل تبدأ مثل الطفل: بلا معرفة، لكنها تتعلم من الأمثلة، ومن التغذية الراجعة التي تحصل عليها. عندما تخبر النظام أن "هذا كلب" و"تلك قطة"، فإنه لا يفهم الصور كما نفهمها، لكنه يقرأها كبيانات رقمية، ويبدأ في ربط الأنماط: الكلاب لها حجم معين، القِطَط تتحرك بطريقة معينة، وغير ذلك من الخصائص.
ما يحدث هنا هو خلق قاعدة قرارات داخلية—قائمة على التجربة، وليست مبرمجة مسبقًا. إنها عملية تعلم حقيقية، تشبه كثيرًا ما نقوم به كبشر، لكنها أكثر اتساعًا وقدرة على التكرار والتحليل. هذه البساطة الظاهرية هي ما يجعل خوارزميات التعلم الآلي مثيرة فعلًا، فهي لا تحتاج إلى عقل بشري خارق، بل فقط إلى أمثلة، وبيانات، وبعض الصبر لتعلّم كيف ترى وتفهم العالم بطريقتها الخاصة.
ما هي الخوارزميات ولماذا نحتاجها في التعلم الآلي؟
الخوارزميات، في جوهرها، ليست أكثر من طرق منظمة لحل المشكلات. كما أن وصفة إعداد الكعك تُخبرك بالخطوات المطلوبة للوصول إلى نتيجة لذيذة، كذلك تفعل الخوارزميات في عالم الحوسبة؛ فهي تسلسلات منطقية من التعليمات تُقدَّم للحاسوب ليعالج البيانات ويصل إلى نتيجة.
لكن حين ننتقل إلى التعلم الآلي، تصبح الأمور أكثر حيوية وتفاعلية. الخوارزمية هنا لا تُعطى فقط للتنفيذ، بل تُمنح الفرصة للتعلّم من التجربة. كأننا نضع أمامها مجموعة من الأمثلة والنتائج، ونطلب منها أن تكتشف بنفسها القواعد والعلاقات التي تربط بين المدخلات والمخرجات. نحن لا نقول لها ما الصحيح، بل نُريها العديد من الحالات ونتركها تستنتج ذلك تدريجيًا.
لنفترض أن لدينا خوارزمية تريد التعرّف على رسائل البريد الإلكتروني المزعجة. بدلًا من أن نكتب لها قواعد ثابتة مثل "إذا احتوت الرسالة على كلمة خصم، فهي مزعجة"، نقوم بتزويدها بمئات أو آلاف الرسائل المصنفة مسبقًا بين مزعجة وغير مزعجة. من خلال تحليل الكلمات والأنماط، تتعلم الخوارزمية كيف تميز الرسائل بنفسها. كلما زادت البيانات التي تتعرض لها، زادت دقتها في التصنيف.
نحن نحتاج هذه النوعية من الخوارزميات لأن حجم البيانات في عالمنا تجاوز قدرة البشر على معالجتها يدويًا. والأهم من ذلك، أن الأنماط داخل هذه البيانات قد تكون دقيقة جدًا، أو معقدة لدرجة لا يراها الإنسان بسهولة، لكن الخوارزمية يمكن أن تلاحظها وتتعلم منها، لتصنع قرارات أدق وأذكى بمرور الوقت.
منطق جديد: كيف تختلف خوارزميات التعلم عن البرمجة التقليدية؟
في البرمجة التقليدية، نحن نتصرف كقادة يوجّهون النظام بدقة: إذا حدث كذا، فافعل كذا. نحن نضع الشروط، نحدد الخطوات، ونُخبر الحاسوب بكل تفصيل صغير كي يصل إلى النتيجة المطلوبة. تمامًا كما نكتب وصفة طهي نُتوقّع أن تُنتج نفس النتيجة في كل مرة إذا تم تنفيذ الخطوات بدقة. لكن ماذا لو تغيّرت المكونات؟ أو تغيّر ذوق الشخص الذي سيتذوق الطبق؟ في البرمجة التقليدية، سيتوقف النظام، أو يخطئ، لأنه لم يتعلم كيف يتكيف.
أما في خوارزميات التعلم الآلي، فالأمر مختلف تمامًا. نحن لا نُملِي التعليمات واحدة تلو الأخرى، بل نقدم للنظام مثالًا بعد مثال، ونعطيه المجال ليلاحظ الأنماط، يختبر الفرضيات، ويطوّر استراتيجياته الخاصة. كأننا نُعطيه عينين ليرى، وأذنين ليسمع، ثم نطلب منه أن "يتعلم كيف يفكر" انطلاقًا من البيانات.
ولأن هذه الخوارزميات تتعلم من التجربة، فهي تملك شيئًا لا تمتلكه الخوارزميات التقليدية: القابلية للتكيّف. إذا تغيرت البيانات أو الظروف، لا حاجة لإعادة برمجتها من الصفر، بل يكفي أن نعيد تدريبها على الحالات الجديدة، وستتطور تلقائيًا.
خذ مثالًا على ذلك أنظمة التوصية، مثل تلك التي تستخدمها خدمات بث الفيديو أو المتاجر الإلكترونية. في البرمجة التقليدية، سيتوجب علينا كتابة قواعد معقّدة: "إذا شاهد المستخدم فيلمين من نوع الأكشن، اقترح فيلمًا ثالثًا مشابهًا". أما في التعلم الآلي، فنكتفي بإعطائها سجل التفاعل للمستخدم، وهي تستنتج لوحدها ماذا يفضّل بناءً على أنماط لا يمكن ملاحظتها بسهولة حتى من قِبل الإنسان.
هذا "المنطق الجديد" هو ما يجعل خوارزميات التعلم الآلي أكثر ملاءمة لعالم سريع التغير، مليء بالبيانات، يصعب احتواؤه بقواعد ثابتة. إنها ببساطة خوارزميات لا تنفذ فقط... بل تفكر.
العلاقة بين الخوارزميات والذكاء الاصطناعي: من القلب إلى العقل
لفهم العلاقة بين الخوارزميات والذكاء الاصطناعي، يمكننا تخيّل الذكاء الاصطناعي ككائن حيّ متكامل، لديه طموح أن يفكر ويتصرف كما يفعل الإنسان. لكن هذا الكائن لا يمكنه أن يتحرك أو يستجيب أو "يفكر" فعليًا من تلقاء نفسه دون محرك داخلي. هذا المحرك هو الخوارزميات.
الذكاء الاصطناعي كمجال واسع، يهدف إلى بناء أنظمة قادرة على أداء مهام تُعدّ في الأصل حكرًا على البشر، مثل التعرّف على الوجوه، فهم اللغة، أو اتخاذ قرارات معقّدة في بيئات متغيرة. لكنه لا يستطيع القيام بذلك إلا من خلال أدوات دقيقة تنفذ عمليات تحليل وتفكير واتخاذ قرار — وهذه الأدوات هي الخوارزميات.
خوارزميات التعلم الآلي تمثل العقل الباطن لهذا الذكاء. هي التي تمكّنه من النظر إلى البيانات، وتكوين فكرة عنها، وتعلّم كيفية التصرف في مواقف مشابهة مستقبلاً. وتمامًا كما يتعلّم الإنسان من أخطائه وتجربته السابقة، تتعلّم هذه الخوارزميات من كل عملية تصنيف، أو تنبؤ، أو تفاعل تقوم به. بل وتقوم بتحديث نفسها تلقائيًا لتحسين الأداء.
لو أزلنا الخوارزميات من معادلة الذكاء الاصطناعي، فإن ما يتبقى هو مجرد هيكل فارغ: نظام يُنفّذ أوامر محدودة دون وعي أو مرونة. لكن بوجود الخوارزميات، وبالذات تلك التي تتعلّم، يتحول النظام إلى كيان ديناميكي، يتطور ويتفاعل ويتكيّف.
وبهذه الطريقة، تصبح الخوارزميات ليست مجرد أدوات حسابية، بل العمود الفقري الذي يحمل الذكاء الاصطناعي، والقلب الذي يضخّ فيه القدرة على التعلم، والعقل الذي يمنحه الوعي بأن العالم من حوله يتغير... وأن عليه أن يتغير أيضًا.
تمهيد لسلسلة قادمة: رحلة ممتعة داخل عقول الخوارزميات
هذا المقال ليس سوى الخطوة الأولى في سلسلة نهدف من خلالها إلى تفكيك هذا العالم الكبير إلى أجزاء مفهومة وممتعة. سنتناول لاحقًا أهم الخوارزميات واحدة تلو الأخرى، مثل خوارزمية الانحدار الخطي، وشجرة القرار، والشبكات العصبية، ونعرضها بلغة مبسطة مدعومة بالأمثلة والتطبيقات الواقعية. الهدف هو أن يفهم القارئ ليس فقط كيف تعمل هذه الخوارزميات، بل لماذا نستخدم كل واحدة منها، ومتى، وفي أي نوع من المشاكل.
في النهاية، الذكاء الاصطناعي ليس سحرًا، بل هو سلسلة من خطوات منطقية ومعادلات تعلمت أن ترى في البيانات شيئًا أعمق من مجرد أرقام. والخوارزميات ليست غامضة كما تبدو، بل هي منطق منظم قابل للفهم والتعلّم، حتى لو لم تكن مبرمجًا. وكلما فهمنا هذه الخوارزميات بشكل أعمق، كلما اقتربنا من التحكم الواعي في هذه القوة التقنية التي ستشكّل جزءًا كبيرًا من مستقبلنا.